فضيلة الشيخ ربيع يقول السائل ما حكم تعدد البيعات ، إذا كان هناك أكثر
من إمام ؟
قال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،
أظن والله أعلم أن هذا السؤال قد طُرح مراراً ، وقد أجبت عليه في
مناسبات – والله أعلم – ولكن لا مانع من الجواب عليه الآن ، فنقول :
الأصل في الأمة أن تكون أمة واحدة ، وأن يكون لها إمام واحد ، هذا هو
الأصل ، ومن هنا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لإمامين ، فاقتلوا الآخِر
منهما " ، هذا إذا كانت الأمة مجتمعة ومتفقة ، وكلمتها واحدة ، ولها إمام
واحد بويع ، ثم جاء آخر ينازعه ، ويعقد البيعة ، فإن هذا لا شك الذي واقع فيه ،
أمَّا والأمة قد تفرقت ، وتمزقت من قرون ، بل لم تكن تجتمع على إمام
واحد منذ سقطت الدولة الأموية ، لم تجتمع الأمة إلى يومنا هذا على إمام واحد ،
عند سقوط الدولة الأموية ، قامت دولتان : دولة في المشرق ، ودولة في
المغرب "الأندلس" ، عام مائة واثنين وثلاثين – من الأعوام الهجرية – ثم
بعد أيام قلائل ، وبعد موت السفاح – أول خليفة عباسي - ، خلفه المنصور ، فانضاف
إلى هذه الدولة دولة جديدة في الجزائر : "دولة الخوارج الإباضية" ، وبعد
أربع سنوات قامت إلى جانبها دولة أخرى يسمونها الدولة المدرارية – في جنوب المغرب
- ، وبعد سنوات قامت دولة الأدارسة ، وبعد سنوات قامت دولة الأغالبة ، دولتان
قامتا في أيام الرشيد ، ودولتان في أيام المنصور ، وكان الخليفة المنصور أقوى خلفاء
بني العباس ، وأرسل جيشاً لاستعادة الأندلس فلم يأته إلا الرؤوس ، حصل قتال بين
جيش عبد الرحمن الداخل ، وبين جيش المنصور ، فدارت معارك استأصل فيها شأفة الجيش المشرقي
، وأرسل بالرؤوس في أيام الحج إلى مكة والمدينة فيئس المسلمون من إعادة الأندلس
إلى حظيرة الخلافة ، وبعد أيام .... سنوات قليلة قامت دولة الأزارقة أو دولة
الإباضية في أيام المنصور في عام مائة وأربعين ، في عام مائة وواحد وأربعين الدولة
المدرارية وفي عام أربعة وأربعين قامت الدولة الرستمية .... كلها خوارج ،
لو كان عند الأمة قدرة - علماء الإسلام في المشرق : مالك والأوزاعي
ومن عاصرهم من العلماء ، وسفيان بن عيينة وغيرهم – لو كان استطاعت الأمة أن
يستعيدوا هذه الدول إلى حظيرة الخلافة حتى تكون الأمة كلها أمة واحدة تحت راية
واحدة ، والله ما كانوا يقصرون ، كانوا يروون الأحاديث ويفسرونها للناس ، ولكن في
نفس الوقت لا تسمع عالماً يقول يجب على الخلافة العباسية أن تستعيد هذه الممالك
إلى حظيرتها وتخضعهم لسياستها ، ما قال هذا أحد لماذا ؟
لأن هذا أمرٌ فوق طاقة الأمة ، ويترتب عليه من المذابح والمفاسد ما لا
يعلمه إلا الله ، بل نرى في تاريخ المنصور ، وفي تاريخ الرشيد ، وفي تاريخ غيره من
الخلفاء كانوا يغزون الروم ويغزون الصين ، ولكن لا يستطيعون أن يغزون هذه الأقاليم
الإسلامية ، والله كانوا يفتحون قتوحات في بلدان كفار ويسهل عليهم هذا الفتح ،
ويصعب عليهم أشد الصعوبة إستعادة هذه البلدان التي انفصلت عن الخلافة ، ثم بعد
سنوات طويلة إلى عام ثلاثمائة ... إلى عام مائتين وستة وتسعين قامت الدولة الباطنية
(الفاطمية) في المغرب على أن تغزو ثلاثة دول التي ذكرناها سابقاً .. بل أربع دول :
دولة الأدارسة ودولتي الخوارج (دولتين) والدولة الرابعة دولة الأغالبة ، استولت
هذه الدولة الباطنية (الفاطمية) على هذه الممالك كلها ، ولم تستطع الخلافة
العباسية أن تتدخل ، وتقف في وجه هذه الدولة الباطنية ، ثم بعد سنوات توسعت وأخذت
مصر والشام - الدولة الباطنية - وبقيت مصر والشام بأيدي الباطنيين حوالي مائتين
وخمسين سنة ، والخلافة العباسية بعلمائها لا يستطيعون أن يحركوا ساكناً ،
ولا تجد مطالباً من العلماء بـإعادة هذه الدول ، ولا يقولون أن البيعة
: بيعة هذا الإمام في هذا الإقليم الباقي غير صحيحة ، بل بيعته صحيحة ويرونه
إماماً ، وبيعة الأمويين في الأندلس وهم على السنة كانوا - العلماء والفقهاء –
ومنهم منذر بن سعيد البلوطي الذي كان من أقوى الشخصيات وأقوى العلماء ، ما كان ؟
كان يبايع ، ويرى بيعة هذا الإمام لازمة ، والعلماء كلهم من وراءه
يرون أن بيعة هذا الإمام لازمة يترتب عليها الطاعة ، وله أن يجاهد ويستحل بذلك
الفيء ، ويستحل به السبي ، ويقيم الحدود ، وينهض بالشريعة ، لا يرون شيئاً من
أحكامه غير نافذ ، ويرون وجوب طاعته ،
وكذلك يفعل علماء الإسلام في المشرق إذا بايعوا الدولة العباسية التي
لم يبق في يدها إلا الثلث تقريباً من أراضي الأمة الإسلامية ، كانوا يرون أن بيعة
الخليفة فيها للأقاليم بيعة صحيحة ، وهو خليفة ، وعبد الرحمن الثالث من الخلفاء
الأمويين سمى نفسه خليفة ، والأئمة قبله كانوا يسمون أنفسهم أبناء الخلائف ،
وكانوا يبايَعون على السمع والطاعة ، ويعقد العلماء هذه البيعات - والعلماء هم أهل
الحل والعقد - كانوا يرون هذه البيعات بيعات صحيحة ،
واستمرت الأمة إلى يومك هذا ، في العالم كله ، أقالم متعددة وكثيرة ،
وكل إقليمٍ يبايعون إمامهم ، وإذ تُبارك هذه البيعات ، ويرون أنه يجب الطاعة لهذا
الإمام ، كل إقليم يرون البيعة لهذا الإمام الذي بايعه في هذا الإقليم بيعة صحيحة
تلزمهم به الطاعة ، ولا يجوز لأحد أن يخرج في هذا الإقليم ، ومن خرج في هذا
الإقليم بالذات يطبق عليه الحديث : "إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخِر منهما"
، ومن الفقهاء وأفقه الفقهاء الذين أقروا تعدد البيعات شيخ الإسلام ابن تيمية ،
وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، وشيخ الإسلام الشوكاني ، والصنعاني ، وصديق حسن
خان ، والإمام الشنقيطي صاحب الأضواء ، والقرطبي ، وغيرهم من علماء الإسلام أجازوا
تعدد البيعات ، لماذا ؟
لأنه ضرورة ، والله سبحانه وتعالى ما كلَّف الأمة فوق طاقتها ، وإذا
استعرضنا أصول الإسلام وقواعد الإسلام نجد عند المشقة ، وعند مظنة المشقة ،
يُــتسامح ... تسقط هذه الفروض ، ألا يسقط عن المسافر الصيام في حال السفر ولا يجب
عليه ؟ وألا تسقط ركعتان عن المسافر من الظهر والعصر والعشاء وهم كل منهم أربع
ركعات يصليهما ركعتين ركعتين ، ونجمع الثانية مع الأولى أو العكس ، كل هذا رفقاً
بهذه الأمة ،
الحج لا يجب إلا على المستطيع ، لو أن تسعاً وتسعين في المائة من
الأمة عجزوا عن الحج وعن القيام بهذا الركن ، لا يجب عليهم أن يحجوا }
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا { ،
فالعلماء نظروا .... الفقهاء نظروا إلى هذه الأشياء ، وهذه السماحة في
الإسلام ، ورفع الحرج ، ورفع المشقة ، التي لا يترتب عليها سفك دماء ،
فكيف يكلفهم الله تبارك وتعالى بالقيام بواجبٍ تزهق فيه الأرواح ،
وتستباح فيه الدماء والأعراض ، ثم لا يمكن أن تتحقق الغاية ،
والآن في هذا الوقت من يستطيع أن يجمع شمل المسلمين ؟
وانظر كل بلد يُحصّن بلده وثغوره ضد الدولة الإسلامية الثانية أكثر من
التحصينات التي تكون بين المسلمين والدول الكافرة ،
الآن تقتطع بعض الأقاليم .... تقتطع أطرافها من المشركين ومن الباطنية
فيعجزون عن استعادتها ،
كيف تُكلف الأمة أن تقيم الخلافة في هذا العصر ، وهي أصبحت من
المستحيلات ؟
من الصعوبة بمكان والأمة متفرقة في عقائدها ، وفي فكرها ، وفي سياستها
، أضعاف أضعاف أضعاف ما كان في العصور السابقة التي لم ينادي العلماء بتوحيد الأمة
تحت راية واحدة ، وتحت خلافة واحدة ،
كيف الآن نقول أن بيعة فلان ما تصح ، نحن نقول هذا البلد يبايع على
كتاب الله ، وعلى سنة رسول الله ، والبيعة فيه صحيحة ، والطاعة فيه واجبة بمقتضى
هذه البيعة ،
البيعة تمت على أيدي أهل والعقد ، وتجب على المسلمين عموماً التابعين
لأهل الحل والعقد ، أن يقوموا بواجب هذه البيعة ومقتضاها ، ألا وهو الطاعة والذب
عن حياض هذه البلاد .... بلاد التوحيد .... بلاد السنة التي يعاديها أعداء الإسلام
جميعاً ، واللهِ يقول بعض الناس الذي يذهب إلى أوربا وأمريكا : إن المكتبات مليئة
بالطعن والتشويه بهذه البلاد وحكامها ، لا روافض ولا قذافي ولا صدام ، ولا أسد ،
ولا ..... لو تجمع الكتب التي تطعن فيهم لا تساوي واحداً في المائة ،
لماذا كل هذا ؟
لأن هذه بلاد التوحيد ، وبلاد السنة ، وصخرة الإسلام صلبة فيه صامدة
لم يستطع الأعداء أن ينالوا منها ، ولم يستطيعوا تفتيتها كما فتتوا صخرة الإسلام
في سائر بلاد المسلمين ، فلهذا يعاديها أهل البدع والأحزاب الضالة التكفيريون
وغيرهم ، ومن آثار هذا العداء ما نراه الآن من تفجيرات ، ومن مشاكل ، فهؤلاء
الخوارج أشد الناس على الإسلام والمسلمين كما قال ذلك رسول الله : "يقتلون
أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" ،
فيجب على كل مسلم في هذا البلد أو في غيره أن يحافظ على مكانة هذه
البلاد ، وأن يحترمها لأنها قائمة على التوحيد ، مدارسها ومحاكمها ، وكل شئون
حياتها قائم على الكتاب والسنة ، إلا ما
ند وشذ ،
نسأل الله أن يوفق هذه الدولة لتلافي هذه الأخطاء حتى تلقم هؤلاء
الذين يفرحون بهذه الأخطاء .