معنى الجماعة في حديث حذيفة بن اليمان - الجزء
الثاني - خطأ محمد رشيد رضا
---------------------------------------------
---------------------------------------------
الحمد لله ،
فمما مر معنا أن المقصود بجماعة المسلمين - كما نقل ابن حجر عن الطبري -
أنهم : "الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره" ،
وأن المقصود بإمامهم : "أميرهم "
---------------------------------------------
فما هو فهم الدعاة المعاصرين والمشايخ لمعنى الجماعة والإمام وتنزيلهم للحديث ؟
---------------------------------------------
لقد ظهر لي خطأ كثير من الدعاة والمشايخ المعاصرين – بل والماضين في المائة سنة الأخيرة - في فهم معنى الجماعة في حديث حذيفة ، ومعنى الإمام الذي يجب طاعته ، الأمر الذي أوقعهم في مخالفة أمر الرسول بلزوم الجماعة ، ولم يعرفوا قدر البيعة التي في أعناقهم ، ولمن تكون ؟
وكانوا سبباً على التحريض على مفارقة الجماعة ، بل واشتعال فتنة الربيع العربي مؤخراً.
---------------------------------------------
الخطأ الأول في فهم الجماعة:
أن المقصود بجماعة المسلمين هم "ولاة الأمر وأهل الحل والعقد" .
وصاحب هذا الفهم هو "محمد رشيد رضا" ، ففي كتابه الخلافة (ص: 22 ) وبعد أن ذكر أمر الرسول : "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" - في حديث حذيفة - قال :
"هؤلاء الجماعة هم أولو الأمر من المسلمين وأهل الحل والعقد والإجماع المطاع." أ . هـــ .
---------------------------------------------
ونلاحظ في كلامه هذا خلط كبير ، وذلك يرجع إلى ضلاله في تفسير معنى "أولي الأمر" والذين أمر الله بطاعتهم في الآية (59) من سورة النساء : قال الله : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ......." ،
حيث فسر "أولي الأمر" بأهل الحل والعقد لا بالأمراء ، ونقل ذلك التفسير عن الرازي "المعتزلي" وأقره ، حيث يقول في كتابه في نفس الصفحة :
"وقد تقدم في التعريف بالخلافة قول الرازي إن الرئاسة العامة هي حق الأمة التي لها أن تعزل الإمام (الخليفة) إذا رأت موجبا لعزله، وقد فسر السعد معنى هذه الرئاسة لئلا تستشكل فيقال إذا كانت الرئاسة للأمة فمن المرءوس؟ فقال إنه يريد بالأمة أهل الحل والعقد أي الذين يمثلون الأمة بما لهم فيها من الزعامة والمكانة، ورئاستهم تكون على من عداهم أو على جميع أفراد الأمة. . والثاني هو الصحيح، ويؤيد هذا تفسير الرازي لأولى الأمر في قوله تعالى 58: 4 {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فقد حقق أن المراد بأولي الأمر أهل الحل والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة. وقد تابعه على هذا النيسابوري واختاره الأستاذ الإمام، ووضحناه في التفسير" أ . هـــ .
---------------------------------------------
ونتيجة لخلطه هذا أنه نزَّل مفهومه لأهل الحل والعقد على حكام كل قطر من أقطار المسلمين وعلى غيرهم من الزعماء والعلماء ، وأنهم هم الجماعة في زمانه حيث يقول في مجلة المنار (25 / 257 ) في عدد رمضان لعام 1342هـ الموافق لشهر مايو - 1924م:
"أهل الحل والعقد بالفعل في العالم الإسلامي الآن هم رؤساء الحكومات الإسلامية المستقلة , وأركان دولتهم وأصحاب الزعامة الذين يوجدون في بعضها دون بعض، وتوجد الشروط الشرعية في بعضهم دون بعض، وهم على ما هم إذا بايعوا رجلاً بالخلافة، وعاهدوه على السمع والطاعة، وكان مستجمعًا للشروط الشرعية المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة؛ صار هو الإمام الحق الذي تجب طاعته على كل مسلم في الحق والمعروف. وإن لم يكن ذلك؛ وجبت طاعته على البلاد التي بايعه أولو الأمر والحل والعقد فيها دون غيرهم.
في مصر الملك فؤاد ووزراؤه وكبار العلماء , وأعضاء مجلسي النواب والشيوخ , وفي الأفغان الأمير أمان الله خان وأركان دولته، وفي الترك أعضاء المجلس الوطني الكبير، وفي جزيرة العرب أمراؤها وأئمتها المعروفون: إمام اليمن، وسلطان نجد، وملك الحجاز، وأمير تهامة. ولدى كل من هؤلاء زعماء وعلماء إذا لم يوافقوه على البيعة لا تنفذ الأحكام في بلادهم؛ فهم من أهل الحل والعقد فيها، إلا ملك الحجاز فهو المستبد المطلق الذي ليس لأحد من مدن بلاده معه أمر ولا رأي. وأما القبائل فأهل الحل والعقد فيهم شيوخهم , وأكثرهم غير خاضعين له." أ . هـــــ .
---------------------------------------------
ثم يحاول "محمد رشيد رضا" أن يجيب على سؤال المستفتي في نفس الموضع من المجلة - وذلك بعد سقوط الخلافة العثمانية - بمن هو الإمام الآن ؟
فتجده تائهاً يجيب إجابة المحتار ، فيطرح ثلاث إجابات غير جازم بإحداها ،
ففي الأولى : يسوق حديث حذيفة مستدلاً بنهايته على جواز خلو الزمان من الجماعة والإمام – ولكن هذا يخالف قوله بوجود الجماعة - .
ثم يعود ثانياً : ويزعم بأن إمام الزمان ليس بواجب معرفته .
ثم يعود ثالثاً : ويفتي بأنه يوجد ثلاثة أئمة !!
()()()()()()()()()()()()()
فيقول : " وثانياً مذهب أهل السنة والجماعة في الإمامة أنها من أمور الإسلام العملية لا الاعتقادية , فليس الواجب على كل مسلم في كل زمن أن يعتقد بوجود إمام وأن يعرفه بالعيان أو بالوصف والاسم , حتى يخرج من الإثم؛ لأنه اعتقاد مطلوب لذاته , وإنما يجب على المسلمين في جملتهم أن ينصبوا لهم إمامًا يكون رئيسًا لأولي الأمر وأهل الحل والعقد في إقامة أمور دينهم , ونظام حكومتهم وحفظ بيضتهم. فإن تعدد الحكام في المسلمين، ووجد الإمام الحق والجماعة أولو الأمر وجب على المسلم أن يعتزل سائر الفرق وحكوماتها، ويلزم الإمام والجماعة ولو بالهجرة إليهم. فإن تعددوا وجب الوفاء للأول وقتل من يبايع بعده،" أ . هــــ .
وفي كلامه هذا مخالفة واضحة لكلام العلماء في تفسير حديث : "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" بل ولكلام السلف كالإمام أحمد في بيعة المتغلب والذي "لا يحل لأحد أن يبيت ليلة ولا يراه إماماً براً كان أو فاجراً" فدل ذلك على وجوب تعيين الإمام الذي على المسلم أن يعتقد أن له في عنقه بيعة .
وثم مخالفة أخرى منه لإجماع العلماء ، ذلك الإجماع الذي نقله الصنعاني والشوكاني وصديق حسن خان ومحمد بن عبد الوهاب على أن من تغلب على قطر من الأقطار له حكم الإمام الأعظم يسمع له ويطاع ولا يجوز الخروج عليه .
()()()()()()()()()()()()()
ويقول "محمد رشيد رضا" :
"وثالثاً - إذا كان غرض السائل أن يعلم هل يوجد إمام للمسلمين في أي بقعة من بقاع الأرض؟ ليطمئن قلبه بأن الأمة الإسلامية كلها غير آثمة كلها، وإن لم يعترف غير أهل بلاده بإمامته - فقد علم أن في اليمن إماما، وقد ذكرنا في كتاب الخلافة أن في نجد إمامًا حنبليّا، وفي تهامة إماما شافعيّا، وكل من الثلاثة مبايع قبل حسين الذي في مكة ...." أ . هــــــ .
ثلاثة أئمة !!!!
فما هو موقف المسلم منهم ؟؟؟؟ وهل المسلم مخير في بيعة أحدهم ؟؟؟؟
فلا تجد جواباً .
---------------------------------------------
ثم نجده بعدها بسنتين ينقض ما سبق من فتواه في ذات المجلة (27 / 138 ) في عدد شوال لعام 1344هـ الموافق لشهر مايو - 1926م
وينشر مذكرة قدمها إلى مؤتمر الخلافة العام وفيها يطالبهم بالبحث عن أهل الحل والعقد فيقول :
"فأول ما يجب على أهل العلم بمصلحة الأمة ذوي الغيرة والرأي من أعضاء مؤتمر الخلافة وغيرهم هو البحث عن أهل الحل والعقد في كل شعب من شعوب المسلمين حيث وجدوا، والسعي لإيجادهم حيث فقدوا"
ويا للعجب !! انظر كيف كان تخبط الرجل لضلال فكره الذي جعله يعيش في عالم من الخيال ؟ إذ كيف يطالب بالبحث عن أهل الحل والعقد ؟؟
وهل سُمي أهل الحل والعقد بذلك الاسم إلا لكونهم يُحلِّون ويعقدون ؟ أي يعينون من إليه الحكم أو يعزلون ، فكيف يُطالب بالبحث عنهم ؟
إذا كان الأئمة أمامه ولا يراهم !! فلماذا وكيف سيبصر مَن ورائَهم من أهل الحل والعقد ؟
وفي آخر كلامه يستمر في أحلامه قائلاً :
"إذا ابتدأ المسلمون بالسعي لهذا عقب انفضاض المؤتمر، فمن الجائز أن يتم النجاح في آحاد من السنين، وليس من الكثير أن يحتاج إلى عشرات السنين، ولا يجوز لهم اليأس إذا لم يتم لهم في العشرات، فإن ما هدم في عدة قرون لا يسهل إعادة بنائه في أقل منها إلا بتوفيق من الله تعالى." أ . هـــــــ .
---------------------------------------------
إن الأمة كان لها بالفعل أئمة يحكمونها في ذلك الوقت ، وهؤلاء الأئمة كان الرأي يعود لكل واحد منهم إن شاء بالتنازل عن حكمه للآخر ويدخل في سلطانه ليكون هذا الحاكم الآخر – وبعد تنازل الآخرين له - هو الخليفة العام على المسلمين ،
ولكن هيهات ثم هيهات ثم هيهات أن يفعلوا .
لقد تركوا أصحاب مؤتمر الخلافة العام بقيادة شيخ الأزهر يُنظِّرون في الهواء هم ومن يتابعهم أمثال "رشيد رضا" ، بل ويهتفون في جلساتهم بحياة ملك مصر ، كما حدث في نهاية جلستهم الرابعة كما نُقِل في مجلة المنار (27 / 449 ) على لسان أحد الحاضرين أنه قال :
"ونشكر الحكومة المصرية على سعة صدرها للسماح لنا بهذا الاجتماع، ونشكر جلالة ملك مصر المعظم على هذه الحرية التي تجلت لنا في أكبر مظاهرها.
ثم نادى بحياة جلالة الملك فردد الحاضرون نداءه."
نعم فهذا أقصى ما وصلوا إليه ، وأفادوه من هذا المؤتمر ،
الهتاف بيحيا الملك ... يحيا الملك .
وياللجهل الذي وصلت إليه الأمة بالبارحة،
وما أشبه الليلة بتلك البارحة ،
فلقد اجتمع شيوخ مصر السلفيين (يعقوب والحويني والعدوي وحسان وغيرهم) في السابع من يوليو بعد عزل "مرسي" للمطالبة بعودته للحكم - في بيانهم الثالث والثلاثين -، ظانين أيضاً أن الأمة تنتظر كلمتهم ، فَهُم (أهل الحل والعقد (في زعمهم!!
ولم يُبصروا من فرط أوهامهم أن للأمة المصرية إمام (رئيس) قد استلم الحكم وتغلب ، ولم يُبصروا مَن وراءَه من أهل الحل والعقد من قادة الجيش ، وذهبوا ليجتمعوا ويصدروا بيانهم ، وكأن الأمة وقفت عليهم ،
وغفلوا عن الواقع .... ليعيشوا في أوهام لم يفيقوا منها إلى يومنا هذا . (يُتبع إن شاء الله)