الداعية والقصص الواهية
قصة
تقويم اعوجاج عمر رضى الله عنه بالسيف
الشيخ
على حشيش
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية
للقارئ الكريم لبيان حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الوعاظ والقصاص بما فيها
من افتراءات واشتهرت أيضًا في كتب التواريخ والأدب واتخذها الخوارج والمعتزلة دليلاً
على الخروج على الحكام، وبمثل هذه القصص الواهية انتشرت الفوضى واغتيل حكام وقتل أبرياء،
وابتغوا سبيل الخوارج بهذه الواهيات فضل سعيهم وأشعلوا نيران الفتن في بلادهم «وَهُمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» الكهف
وإلى القارئ الكريم حقيقة القصة الواهية
لقد أورد عباس محمود العقاد هذه القصة في كتابه
«عبقرية عمر» حيث قال «ومن ذلك الرواية المشهورة التي سأل الناس فيها أن يدلوه على
عِوَجه فقال له أحدهم «والله لو علمنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا» فحمد الله أن
جعل في المسلمين من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه» اهـ
قلت وإن تعجب فعجب أن هذا الكتاب الذي جاءت به هذه
القصة كان مقررًا على طلاب المرحلة الثانوية بمصر عام هـ المجتمع في فترة من أشد الفترات
التي مرت بها البلاد، حيث انتشر فكر الخوارج بين الشباب بمثل هذه القصص الواهية التي
يربى عليها الشباب في وزارة التربية والتعليم دون تحقيق ودون مقارنة علمية بين هذه
القصة التي تحمل منهج الخوارج وبين منهج أهل السنة والجماعة الذي به يتحقق الأمن والتمكين
لأمة خاتم النبيين
وبعدم بيان نكارة هذا المنهج انتشرت الفتنة مما أدى
إلى الاغتيالات والقتل وزعزعة الأمن والاستقرار في البلاد
الدراسة العلمية في مثل هذه المعاهد تقتضي بيان منهج
أهل السنة والجماعة وبيان منهج هذه الفرق الضالة التي تعتمد على مثل هذه القصص الواهية
فيستطيع الطالب من خلال هذه الدراسة التحليلية أن يعرف نكارة هذه القصة وأثرها السيء
في الأمة
الكاتب لم يبين هذا، وإن تعجب فعجب من قوله «ومن
ذلك الرواية المشهورة» فيظن من لا دراية له بالصناعة الحديثية أن القصة صحيحة ولكن
هيهات، فإن الشهرة أقسام حيث إن الخبر المشهور ينقسم إلى أقسام من وجوه
الوجه الأول من حيث الصحة ينقسم إلى
أ صحيح
ب ضعيف
الوجه الثاني من حيث الاصطلاح ينقسم إلى
أ شهرة اصطلاحية
ب شهرة غير اصطلاحية
الوجه الثالث من حيث موضع الشهرة في السند تنقسم
الشهرة الاصطلاحية إلى
أ مطلقة
ب نسبية
ولذلك قال الإمام الحافظ ابن كثير في «اختصار علوم
الحديث» النوع الثلاثون «وقد يشتهر بين الناس أحاديث لا أصل لها أو هي موضوعة بالكلية
وهذا كثير جدًا» اهـ
ثم ضرب أمثلة على هذا النوع الذي اشتهر بين الناس
ولا أصل له منها «يوم صومكم يوم نحركم»
قلت ومنها «يس لما قرئت له»
لا أصل له هكذا، قال السخاوي في «المقاصد» ح ووافقه
القاري في «المصنوع» ح
بالبحث وجد أن هذه الشهرة التي لم يحققها الكاتب
ويبين نوعها هي شهرة غير اصطلاحية، حيث إن هذه القصة التي اشتهرت في كتب التواريخ والأدب
لا أصل لها وعلامات الوضع ظاهرة عليها كما هو مبين في أقسام الوضاعين، ومبين أيضًا
بما يعرف به الوضع بقرائن في الراوي أو المروي أو فيهما معًا
فقد نقل محدث وادي النيل الشيخ أحمد شاكر في «الباعث
الحثيث شرح اختصار علوم الحديث» النوع الحادي والعشرون معرفة الموضوع المختلق المصنوع
قول الحافظ ابن حجر ومما يدل في قرينة حال المروي ما نقل عن الخطيب عن أبي بكر الطيب
أن من جملة دلائل الوضع أن يكون منافيًا لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواترة
أو الإجماع القطعي» اهـ
قلت ودلالة الوضع ظاهرة على هذه القصة الواهية المشهورة
شهرة غير اصطلاحية حيث لا أصل لها، وهي منافية لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على عدم
الخروج على الحكام لأخطائهم
فالإجماع الذي انعقد عند أهل السنة والجماعة على
ذلك مبني على النصوص الشرعية الواضحة التي تواترت بذلك، ومنها على سبيل المثال لا الحصر
ما أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الإمارة ح حيث قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي،
أخبرنا عيسى بن يونس، حدثنا الأوزاعي عن يزيد بن يزيد، عن جابر بن رُزَيْق بن حيان،
عن مسلم بن قَرَظَة، عن عوف بن مالك، عن رسول الله قال «خيار أئمتكم الذين تحبونهم
ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم
ويلعنونكم» قيل يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف ؟ فقال «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة،
وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا ولا تنزعوا يدًا من طاعة»
قلت وهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم في
«صحيحه» يبين أن الخبر الذي جاءت به هذه القصة الواهية «قصة تقويم اعوجاج عمر رضي الله
عنه بالسيف» خبر منكر ظاهر البطلان من وضع الخوارج، وهو لا أصل له، أي لا سند له، حيث
قال ابن تيمية رحمه الله معنى لا أصل له، أي ليس له إسناد، أورده السيوطي في تدريب
الراوي
وبهذا
يتبين أن قصة «تقويم اعوجاج عمر بالسيف» منكرة ومخالفة للإجماع الذي بيناه آنفًا، وهذا
من جملة دلائل الوضع التي نقلها الحافظ ابن حجر عن الخطيب عن أبي بكر الطيب
قصة
صحيحة لحذيفة مع النبي
فقد أخرج الإمام مسلم في «صحيحه» كتاب الإمارة ح
من حديث قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال قلت يا رسول الله، إنا كنا بشر فجاء
الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر ؟ قال «نعم» قلت هل وراء ذلك الشر خير
؟ قال «نعم» قلت فهل وراء ذلك الخير شر قال «نعم» قلت كيف ؟ قال «يكون بعدي أئمة لا
يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»
قال قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال
«تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع» اهـ
وقد أخرج الإمام البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني
فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» اهـ
قلت وقد بوَّب الإمام البخاري رحمه الله على هذا
الحديث في كتاب «الأحكام» من «صحيحه»، فقال باب قول الله تعالى «أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» النساء
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله «وفي الحديث وجوب طاعة
ولاة الأمور وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية» اهـ
قصة أخرى واهية في تقويم اعوجاج عمر ولكن لا سيف
فيها
أخرج ابن أبي شيبة في «مصنفه» ح قال حدثنا يحيى بن
عيسى عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن حذيفة قال «دخلت على عمر وهو قاعد على جذع في
داره وهو يحدث نفسه فدنوت منه، فقلت ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين، فقال هكذا بيده
وأشار بها، قال قلت ما الذي يهمك والله لو رأينا منك أمرًا ننكره لقومناك، قال اللهِ
الذي لا إله إلا هو لو رأيتم مني أمرًا تنكرونه لقومتموه، فقلت اللهِ الذي لا إله إلا
هو، لو رأينا منك أمرًا ننكره لقومناك، قال ففرح بذلك فرحًا شديدًا، وقال الحمد لله
الذي جعل فيكم أصحاب محمد من الذي إذا رأى مني أمرًا ينكره قومني» اهـ
التحقيق
هذه القصة واهية علتها يحيى بن عيسى الرملي، ولقد
بيَّن الإمام البخاري نسبته وكنيته فقال في «التاريخ الكبير» ترجمة «يحيى بن عيسى بن
عبد الرحمن الرملي سمع الأعمش وهو التيمي أبو زكريا الكوفي سكن الرملة النهشلي الخزاز
سمع سفيان قال يوسف الصفار ويقال يحيى بن عيسى بن محمد» اهـ
قال الإمام ابن حبان في «المجروحين»
أ يحيى بن عيسى بن محمد التميمي الرملي أصله من الكوفة
انتقل إلى الرملة كنيته أبو زكريا، وكان خزازًا يروي عن الأعمش والثوري روى عنه الشاميون،
مات سنة إحدى ومائتين، وكان ممن ساء حفظه وكثر وهمه حتى جعل يخالف الأثبات فيما يروي
عن الثقات، فلما كثر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به
ب أخبرنا محمد بن زياد الزيادي قال حدثنا ابن أبي
شيبة سمعت يحيى بن معين وذكر له يحيى بن عيسى الرملي، فقال كان ضعيفًا
جـ سمعت محمد بن محمود سمعت الدارمي قلت ليحيى بن
معين فيحيى بن عيسى الرملي تعرفه ؟ قال نعم، ما هو بشيء
قلت ونقل الشيخ الألباني رحمه الله هذا الكلام من
طريق الحافظ الدارمي عثمان بن سعيد عن يحيى بن معين وضعف به الحديث في الضعيفة «النظر
إليَّ عبادة»، بل جعله موضوعًا، ولذلك لم يروي له الإمام مسلم احتجاجًا لأنه كما قال
الإمام ابن حبان «بطل الاحتجاج به»، وكذلك ضعف به الحديث في «سلسلته الضعيفة»
وكذلك الحديث من طريق يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش
وضعفه بالرملي وتدليس الأعمش
وفي الأسئلة التي وجهها أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي
للإمام الكبير أبي زكريا يحيى بن معين في «سؤالات الدارمي ليحيى بن معين» رقم
قلت فيحيى بن عيسى الرملي تعرفه ؟ فقال نعم ؟ ما
هو بشيء
وأورده العقيلي في «الضعفاء الكبير» قال
أ حدثنا محمد بن عثمان، قال سمعت يحيى بن معين وذكروا
له حديث يحيى بن عيسى الرملي فقال كان ضعيفًا وكان يسكن الرملة
ب حدثنا محمد، قال حدثنا عباس، قال سمعت يحيى، يقول
يحيى بن عيسى الرملي ليس بشيء
جـ حدثنا أبي، قال سألت أبي، عن يحيى بن عيسى الرملي،
فقال ما أدري ما كتبت عنه شيئًا
وأورده ابن عدي في «الكامل في ضعفاء الرجال» قال
حدثنا محمد بن علي، ثنا عثمان بن سعيد، قلت ليحيى بن معين فيحيى بن عيسى الرملي ما
تعرفه ؟ قال نعم ما هو بشيء، قال عثمان هو كما قال يحيى هو ضعيف قلت ونقل هذا القول
أيضًا الشيخ الألباني رحمه الله في «الضعيفة» وقال «هذا كالنص من الإمام الدارمي على
أن قول ابن معين في الراوي ما هو بشيء»، ومثله «ليس بشيء» معناه عنده أنه ضعيف فلا
تعتبر بما ذكره أبو الحسنات في «الرفع والتكميل» ص مما يخالف هذا فإنه من تكلفات المتأخرين
وآرائهم اهـ
قلت ثم أخرج الإمام ابن عدي أحاديث من مناكيره منها
الحديث الموضوع «النظر إلى وجه علي»، وقال وهذا يرويه عن الأعمش بهذا الإسناد يحيى
الرملي، ثم ختم هذه الأحاديث المنكرة بقوله «وليحيى بن عيسى غير ما ذكرته وعامة رواياته
لا يتابع عليها» اهـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق