الثلاثاء، 8 مارس 2011

قناة الجزيرة.. تساؤلات مشروعة


لجينيات ـ 
لا يختلف اثنان على أهمية الإعلام في عصرنا الراهن ودوره الفاعل والمؤثر في صناعة الحدث فهو الناقل لما يحدث في العالم كله، وهو المرآة التي نطلع من خلالها على ما خفي واستتر، ولاشك أن هناك معايير أخلاقية  لابد أن يلتزم بها الإعلام الحر لكي تكون الصورة المنقولة أو الخبر المنقول قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة. إن دور الإعلام يتضح ذلك جليا في الثورات المتتالية التي غشيت عالمنا العربي ابتداء من الثورة التونسية  ومرورا بالثورة المصرية ووصولا إلى الثورتين الليبية واليمنية وترقبا لثورات أخرى بوادرها بدأت بالظهور. لاشك أن نقل الحدث نقلا صامتا يقضي على حرارة المشهد ويعطي صورة باهتة لا يتفاعل معها المتلقي، ولذا كان التعليق المصاحب للحدث هو مربط الفرس وهو الذي يحتاج إلى مهارة عالية تستخدم كل أدوات التأثير بعناية فائقة للوصول إلى هدف معين، كذلك لا ننسى فنون المونتاج أو المنتجة التي تستخدم الصورة في التأثير على المشاهد وقد تفبركها أو تدخل عليها بعض التعديلات الاتي تخدم الهدف في عصر بدأ فيه التحكم بتلك التقنيات أمرا سهل المنال. اعلام حر واعلام موجه في كوكبنا، وإن كانت مساحة الحرية ليست على اطلاقها فلا زال هناك خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها نظرا لتصادمها مع حقائق ثابتة أو لمخالفتها لايديولوجيات وسياسات معينة. في ظل هذا الزخم المتلاطم المواج من الفضائيات برزت فضائية الجزيرة التي سيطرت على المشهد العام وأصبحت مطلب الكثيرين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم في شتى بقاع المعمورة نظرا لتميزها في اقتحام مسرح الأحداث والكم الهائل من مراسليها والمتعاونين معها والميزانيات الضخمة التي تدفع دولابها ليتسارع في نقل مباشر للأحداث من قلب الحدث ليتفاعل معهه المشاهد ولتحدث انقلابا حقيقيا في مفهوم الإعلام ودوره.

سأعرض في مقالي هذا لبعض المشاهد التي كان لقناة الجزيرة في نقلها قصب السبق. لو تأملنا الثورة التونسية لوجدنا بأن قناة الجزيرة بدأت في نقل الحدث من سي بو سعيد واصفة المشهد بأنه امتعاض وتذمر شعبي بعد احراق البوعزيزي نفسه، وبدأت تعلق على الحدث بحذر شديد وتصف الخارجين بالمتظاهرين أو المحتجين أو الناقمين، وشيئا فشيئا وظفت الجزيرة الأدوات اللازمة لتضخيم الحدث وتسليط الضوء عليه مستعينة بثلة من المحللين من تونس وخارجها، وبعد ازدياد زخم المظاهرات في أنحاء البلاد رفعت سقف النقد وبدأت في تجاوز الخطوط الحمراء حين بدأت بنقد النظام الحاكم وسطوته وجبروته وزادت ساعات البث تدريجيا إلى أن خصص البث كاملا لتونس وشعبها. قبل سقوط بن علي تعودنا أو عودتنا الجزيرة على سماع كلمة الثوار، والذي كانت تحاذر من استخدامه بداية الغضبة الشعبية. لاشك أن هذا الزخم المتواصل من النقل التلفزيوني للأحداث والتعليقات المثيرة والمؤلبة على الاحتجاج كان لها تأثير غير مسبوق على متابعي القناة من الشعب التونسي حيث صنعت جوا ثوريا لم يعهده الناس من قبل ووافقت  غيظا وكمدا احتبس في قلوبهم عقودا من الزمان فكان أن خرجوا عن بكرة أبيهم في الكثير من المدن لتواصل القناة وصفها لأعداد المتظاهرين حيث أصبحنا نسمع أرقاما فلكية في تقدير أعدادهم بينما الكاميرا تركز على تجمع المتظاهرين في شارع الحبيب بو رقيبة من زاوية واحدة دون أن تنقل لنا المشاهد المجاورة ، ولو فعلت لقتلت الحماس المتأجج في صدور التونسيين بدرجة كبيرة. مهارة النقل التلفزيوني كانت توحي بأن الشارع بل تونس العاصمة خرجت عن بكرة أبيها، ولاأبالغ اذا قلت أن الرئيس التونسي المخلوع تأثر بما تنقله الجزيرة أكثر من تأثره بقنواته الرسمية التي كانت تطبل لنظامه وتزمر وهو ينظر اليها بازدراء وامتعاض.

في المشهد المصري دأبنا على سماع مظاهرات مليونية خصوصا في ميدان التحرير الواقع في وسط القاهرة، وميدان التحرير لمن لا يعرفه هو ميدان فسيح تقع عليه جامعة الدول العربية والمتحف المصري وبعض المجمعات الحكومية. لو قدرنا مساحة الميدان نجد انها لا تتجاوز 40 ألف مترا مربعا، لكن لو بالغنا جدا في التقدير وافترضنا أن الميدان على شكل دائرة متكاملة قطرها 300 مترا مربعا وحاولنا حساب مساحة الدائرة حسب قانون الحساب المعروف: النسبة التقريبية  3,14  مضروبة في مربع نصف القطر وهو 150 مترا مربعا لحصلنا على مساحة تساوي 70 ألف مترا مربعا تقريبا. ولو افترضنا أن المتر الواحد يقف فيه ثلاثة أِشخاص ( وهذا من الناحية العملية مستحيل) لحصلنا على ما يقارب 200 ألف شخص كحد أقصى. وهذا الرقم مبالغ فيه جدا لعدة اعتبارات: أولها: أن ميدان التحرير كان فيه خيام بمساحات متفاوتة  فيها القليل من الأشخاص. ثانيها: أننا كنا نشاهد فراغات كبيرة في الميدان وقت الذروة. ثالثها لا يمكن أن يقف ثلاثة رجال بالغين في متر مربع واحد. لو افترضنا كما تقول قناة الجزيرة أن هناك ما يقارب المليون ونصف المليون في الميدان فهذا يعني أن هناك ما يقارب 7 أشخاص في المتر المربع الواحد وهذا من أمحل المحال. لنناقش الموضوع من زاوية أخرى، لو افترضنا أن لدينا شارع عرضه ثلاثون مترا فكم طول الشارع اللازم لاستيعاب مليون ونصف المليون نسمة؟ الجواب: بما أن الشارع عرضه 30 مترا، فهو  يستوعب 60 رجلا يقفون صفا واحدا. وهذا يعني أننا نحتاج إلى  25000 صفا لاستيعاب مليون ونصف المليون نسمة، واذا افترضنا أن المسافة بين كل صفين مترا واحدا فهذا يعني احتياجنا إلى شارع طوله خمسة وعشرون كيلومترا وعرضه 30 مترا لاستيعاب مليون ونصف المليون نسمة. حسنا لو افترضنا أن المسافة بين الصفين نصف متر فهذا يعني أنني أحتاج إلى شارع عرضه 30 مترا وطوله 12 كيلومترا ونصف لاستيعاب هذا العدد. من هنا يتبين لنا المبالغة في تقدير أعداد المتظاهرين في الميدان.

في الثورة الليبية، نجد التغطية الإعلامية لقناة الجزيرة تركز، بتحيز ملحوظ، على انتصارات الثوار وتنقل لنا صورة تجعل المتابع يجزم أن الثوار قد حرروا التراب الليبي بالكامل، ولو انتقلت إلى القناة الليبية الرسمية ( بغض النظر عن تحيزها الواضح والفاضح ) لوجدت الوضع مغايرا تماما. حيث تنقل لك صورا لا يمكن انكارها أو التنصل منها تؤشر على أن الأوضاع ليست بالسوء الذي تنقله لنا قناة الجزيرة. نلاحظ أن قناة الجزيرة تركز على استضافة كل المناصرين للثورة وكأنها تؤلب بقية الشعب على الخروج بالكامل لأن الصراع حسم، متغافلة الأصوات الأخرى التي تعارض الثورة وإن استضافت بعضهم فاستضافة على استحياء من باب ذر الرماد في العيون، وهذا بلا شك يثير أكثر من علامة استفهام في التزام القناة بالمعايير الأخلاقية للإعلام الحر النزيه.  ويوحي بأن القناة هي الثائر رقم 2  مع الثائرين، وإلا فالموضوعية تقتضي نقل المشهدين جنبا إلى جنب. فلا تنقل من القناة الرسمية الليبية إلا موعد القاء كلمة القذافي.

دعونا نسرح بالخيال قليلا ونعتبر قناة الجزيرة من طاقم القذافي. بربكم هل يمكن أن تتنامى ثورة الشعب بهذه الصورة الدراماتيكية المؤلمة؟ الجواب بالقطع لا. لا ننكر أن القذافي بغى وطغى وتجبر وعاث في ليبيا والأرض فسادا وإفسادا،  لكن الشعب الليبي ليس شعبا فقيرا وليبيا دولة نفطية تستقطب الكثير من العمالة من دول مجاورة و غيرها. دعونا ننتقل إلى مشهد آخر مضى عليه 90 عاما عندما قاد الشيخ سعيد الكردي ثورة لإعادة الخلافة العثمانية عام 1343هـ 1925م ، وكان شعارها : " لتحيا الخلافة ولتسقط الجمهورية "، ومع أنه استطاع السيطرة على معظم شرق تركيا إلا أن أتاتورك قضى عليها ونفّذ مذابح شنيعة ، بلغت ضحاياها نصف مليون، طبعا قناة الجزيرة وقتها لم تولد ولو كانت مولودة لتغيرت موازين القوى لصالح الشيخ الكردي. أليس كذلك؟

هي تساؤلات مشروعة تحتاج إلى أكثر من جواب، وهذا ما حدا بابن القذافي القول بأنه أخطأ وندم على عدم وجود قناة تنقل ما يريد نقله للعالم كله، وأجزم بأنه لو توفرت لديه القناة لبالغ في تمجيد نظام أبيه ونقل جانبا واحدا من المشهد لكنه بالتأكيد سيكون له الكثير من التأثير. الحرب النفسية كان لها الدور الأكبر في الكثير من المعارك لقلب النتيجة وبالتالي كسب المعركة، وأعتقد أن المعركتين التونسية والمصرية لعبت فيهما تلك القناة دورا كبيرا في تغيير المشهد السياسي، وهذا ليس تقليلا من دور الشعبين التونسي والمصري اللذين ثارا على الظلم والفساد والتسلط والدكتاتورية،  لكن التأثير الإعلامي يؤلب البقية ويبعث الحماس في قلوب المتخاذلين فتستعر الساحة وتتحرك الجموع الهادرة ويقضى الأمر. إذا هي غضبة شعب زاد أوارها اعلام متحيز تحركه قوى خفية والنتيجة سقوط ضحايا أبرياء ومنتج سياسي جديد، ولذا أتفق مع من قال أن هذه القناة هي بالفعل الوكيل الحصري لتلك الثورات.

هناك عامل آخر استخدمته القناة بعناية فائقة وهو البث المستمر من قلب الحدث بشكل يستثير من هم في قلب الحدث ومن هم خارجه ويجعل المتابع في حالة هياج وغليان وترقب. استضافة المؤثرين من الضيوف من مسؤولين سابقين أو معارضين أو رجال انشقوا على النظام للتأثير على رجل الشارع العادي متجاهلة الأصوات الأخرى في معركتها الإعلامية. هل قناة الجزيرة جزء من المعركة التي تهدف إلى شرق أوسط جديد؟ هل هناك أيد خفية تحركها؟ هل لديها (ايجندا) لإسقاط من تريد اسقاطه؟ هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الأمريكية أشادت بالقناة وقدرتها الفائقة على نقل الحدث بحرفية عالية وإن كانت حسب قولها لا تتفق مع  توجهات القناة أو ممارساتها بشكل كامل. هل يمكن اعتبار قناة الجزيرة الأب الروحي للثورات العربية في القرن الواحد والعشرين؟ هل كان للقناة دور في تحريك تلك الثورات؟ هل تنتهج القناة الحيادية في تغطيتها الإعلامية؟ هل تنقل لنا المشهد كاملا؟ هل لها وكلاء أو عملاء مخفيين من المسؤولين والمتنفذين في العالم؟ هل لها ايديولوجية تسعى لتحقيقها؟ هل تنسينا نشوة سقوط الأنظمة واحدا تلو الآخر ماهية هذه القناة؟  تساؤلات مشروعة أليس كذلك؟

أخيرا أحب أن أنوه إلى أن تساؤلاتي تلك لا تقلل من دور قناة الجزيرة الفاعل في ايصال الصوت شريحة كبيرة من تلك المجتمعات إلى العالم، فلم نر من اعلامنا العربي سوى تلميع النظام والتسبيح بحمده ونقل المشهد الذي يخدم توجهات تلك الأنظمة فهو بلا شك اعلام ضرير يقاد كما تقاد الشاة إلى مذبحها. قناة الجزيرة فجرت مفهوما مغايرا للإعلام الرسمي العربي واقتحمت الخطوط وبثت من جحور الفئران ما خفي عقودا من الزمان، وفضحت الكثير والكثير من الممارسات ونبشت الكثير من الملفات وكشفت الكثير من الحقائق التي حجبت عن المواطن العربي وسلطت الضوء على عورات تلك الأنظمة وشهرت برؤوسها أمام سمع العالم وبصره.

 د. عبدالله بن صالح الخليوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق